لم يشهد التاريخ في جو ساده الحزن والآسى لرحيل شاعر كبير بحجم قلبه الذي تعب من هوى المدن .مثل الشاعر الفلسطيني محمود درويش شاعر المقاومة والحرية الذي عاصر القضية الفلسطينية بكل مراحلها ، وكانت محطته الأخيرة واشنطن – عمان – رام الله .
نعاه الملوك والرؤساء وجميع الأدباء والمفكرين العرب وجميع أصدقائه وأقاربه ومحبيه ،وكان مراسم تشييع دفنه مهيباً فبكاه الكثير، وكان الدمع سيد الموقف عند وصول جثمانه من مطار ماركا الى رام الله. ليس محمود درويش من نقول له وداعاً فهذا المبدع ترك ابداعاً سيبقى موجوداَ طالما بقي حياة على هذه الارض وسيبقى خالدا الى الابد؛ لأنه ترك فراغاً إنسانياً ،عز فراقه لكل من عرف درويش.
ولن يحتاج الفلسطينيون اليوم إلى ذاكرة تذكرهم بالفارس الذي ترجل وترك الحصان وحيدًا، لأنهم أوفوا حق من سبقوه كمعين بسيسو وفدوى طوقان ورفيقيه غسان كنفاني وناجي العلي الذين شكلوا مثلثاً أدبياً كاملاً للأدب الفلسطيني في الشعر والرواية ورسم الكاريكاتير، فلم تمحُ الأيام الحالكة ذكراهم وكأنهم يعيشوا بيننا ومعنا فوجه حنظلة ابن ناجي العلي " ابن القضية أيضا" لازال يرافقهم في شوارع المخيمات ويطل بوجه على بيروت وغزة كل صباح.وحكايات غسان كنفاني لازالت نبراسا له ترقي بها أوجاعهم.
لقد حلق محمود في فضائه من الحب والإبداع والقدرة الفريدة ..الشاعر الذي أحبه الكثير ليس في فلسطين فحسب بل في جميع الوطن العربي . لقد شكل درويش ظاهرة إنسانية مميزة أمتعت الجميع بالشعر والنثر . رحلت عنا لكنك حيٌ في ضميرنا ووجداننا كحلقة الوصل بيننا وبين فلسطين.كنت علامة بارزة في الشعر العربي والأدب الملحمي المصهور بالمعاناة ، ورمزاً لقضية وبلد وشعب ووطن - ولا أظن - أن النجوم تموت ولا تأفل ، أنها فقط تحتجب لفترة خلف الغيوم ،ومن ثم تعود مجددا ..حتى وإن كانت قد غادرت مكانها من ملايين السنين .
"على هذه الارض من يستحق الحياة".عبارة جسدها كلامك وشعرك الطاهر يا فارس الشعراء.
لم يكن غياب محمود درويش أمرًا سهلاً على الفلسطينيين الذين لا يسيطرون على الجغرافيا بقدر ما يقبضون على التاريخ، ويحرصون في رحلة دفاعهم المستميت عن قضيتهم على تسجيل نبضهم وألمهم ومعاناتهم وقهرهم وإبداعهم بالكلمات. كيف لا ودرويش كتب أسرارها ومجد زحفها المقاوم وسجل حنينها المؤبد لقراها ومدنها وخبز أمهاتها وقهوتهن... "أحن الى خبز أمي وقهوة أمي... وتكبر فيّا الطفولة يومًا على صدر أمي" من ديوان عاشق من فلسطين. لم يمر وفاة محمود درويش المبكرة والمفاجئة على الفلسطينيين مرور الكرام، فالشاعر غير العاديّ وابن الثورة الفلسطينيَّة والمخلص لها، وكاتب إعلان استقلال فلسطين في الجزائر في العام 1988، رحل باحتفال بكائي ممّن أحبوه وكذلك من اختلفوا معه. كيف لا وهم من يقدسون العظماء والشهداء والأطفال والحجارة، ويفرشون أهدابهم لاستقبال دموع رحيل أحبابهم بعز وكبرياء.
ابكي عليك وابكي ويبكي معي كل من يعيش في هذا الكون ويعرف درويش. بكيت عندما أيقنت أنك ذاهب للموت. بكيت عندما شاهدت على شاشة تلفزيون فلسطين في يوم دفنه في مدينة رام الله درويش وهو يعمل القهوةوحيداً ومن غيرميعاد وللصدفة أحضرت زوجتي فنجان القهوة ، فبكيت واستمررتُ بالبكاء لأنني كنت أكتب في الوقت نفسه بعض صفحات هذا الكتاب . بكيت قبل ذلك في اليوم نفسه عندما عدت من عملي وقد غادرت المدرسة مبكراً لأن الطلاب لم يبدأوا بالدراسة بعد،فشاهدت دمعة أمي وهي تبكي وتتابع مراسم تشييع دفن فقيد فلسطين وفقيد الثقافة العربية وفقيد فارس الشعر العربي الحديث... والذي ترك الحصان وحيداً .شعرت في هذا اليوم أن جسمي هو الذي يدمع وليست عيناي ... درويش أعذرني لن تكفيك الكلمات ؛لأني كغيري عندما نعد كتاباً نستحضر أولاً الكلمات ونبحث عنها ثم نوثق الكلام للآخرين. أما أنت أيها الشاعر الكبير يا شاعر المقاومة ويا شاعر الثورة ويا شاعر السلام الحقيقي عندما تكتب لا تبحث عن الكلمة أولاً بل إن سحرك في الكتابة كما قلت سابقا في إحدى المقابلات " المفتاح الأولي لي للكتابة هو عندما أعثر على الإيقاع أبدأ بالكتابة " ويرى درويش :
"أن الشاعر لا يعثر على هذا الإيقاع بدون صورة شعرية التي تبدأ بشعور ما أو بفكرة ما ‘ ثم تتحول الصورة الشعرية إلى إيقاع ..". ويقول عن نفسه:
" لا أضع خططاً أو أفكر بكتابة أي قصيدة..ولكن أبدأ بكتابة الشعر عندما أشعر بنداء داخلي كدبابيس تنتشر في دمي تحضني أن أكتب وأن أعثر على الإيقاع".
درويش كيف لا أبكيك؟ وثكالى الأرض تبكيك وتبكي معي آهات فلسطين تبكيك غزتي وضفتي وقدسي وقريتي التي فيها أباري في اللطرون.. حتى امتلأت بالدموع ..و امتلأت.. لتصب في شواطئي ونهري وبحري لكي يسقي كل أشجاري .. زيتوني وليموني وحتى رمالي وريحاني وورودي تبكيك.
أبكيك من عمان وقد أضاءت الشموع لرحيلك.. المدينة التي كنت ترتاح فيها... لأنك كما قلت : "اخترت عمان لأنها قريبة من فلسطين ثم لأنها مدينة هادئة وشعبها طيب. وفيها أستطيع أن أعيش حياتي. وعندما أريد أن أكتب أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمان".
وقد بكى عليك كل محبيك في القاهرة التي كانت بالنسبة لك المدينة الأكبر والأعظم لأنها كما قلت إنها عاصمة الثقافة العربية... والتي كنت تسبح فيها تجربتك ومغامرتك مع غيرك فزادت شهرتك..،فذهبت الى بيروت التي وصفتها بأنها أجمل مدينة في العالم ..وترى فيها ما ترى ..وترى فيها السجال الدائم للتعددية الفكرية .. وترى فيها الحرية الصحفية .. وترى فيها أجمل صناعة للكتاب العربي .. وترى فيها الحيوية الثقافية ..التي بدأت فيها الحداثة الشعرية..فكانت بيروت ساحة للحوار المفتوح في العالم العربي ؛ فكان مجمل أصدقائك في بيروت حتى أصر بعضهم وقد جاؤك من بيروت الى رام الله للمشاركة في مراسم تشييع دفنك لا لوداعك ..لأنك لن تغيب وتركت جرحاً في القلب لا في الجسد . فجرح المشاعر والإحساس الصادقة يبقى ولا يزول .. ويبقى الحزن ويستمر البكاء لكل من يعرف درويش من بيروت الى دمشق والذي وصف جمهورها عندما يستمعون له بإن له احساس مرهف وكأن لكل واحد معه مفتاح .فأصاب خبر وفاتك كغيرهم كالصاعقة... لم ينتظر الموت عشاقه من زوار معرض دمشق الدولي للكتاب ليحملوا دواوينه ويعودوا لمنازلهم حتى يقرؤوا كلماته النابضة بالحياة على مهل، بل فاجأهم خبر وفاتك عندما نعاك لهم وزير الثقافة وكان الوزير موجودا في ندوة ثقافية في مكتبة الأسد عندما أوقف الندوة لينعي رحيل الشاعر الفلسطيني.
ومن دمشق إلى باقي العواصم والمدن العربية من الخليج الى المغرب العربي التي زرتها كثيراً في أجمل الأمسيات الشعرية التي لا تنسى .. كغيرها من أمسيات شعرية دافئة من رحلات محمود درويش عبر العالم وخاصة باريس ومنها اصبحت شاعراً عالمياً بشهادة الجميع .
الى اللقاء يا شاعرنا الكبير في جنات عند مليك مقتدر ستبقى شامخا كما عرفناك بكلماتك ولن تنطفى ما زال بقلوبنا نبض
المؤلفmustafademes@ymail.com
نعاه الملوك والرؤساء وجميع الأدباء والمفكرين العرب وجميع أصدقائه وأقاربه ومحبيه ،وكان مراسم تشييع دفنه مهيباً فبكاه الكثير، وكان الدمع سيد الموقف عند وصول جثمانه من مطار ماركا الى رام الله. ليس محمود درويش من نقول له وداعاً فهذا المبدع ترك ابداعاً سيبقى موجوداَ طالما بقي حياة على هذه الارض وسيبقى خالدا الى الابد؛ لأنه ترك فراغاً إنسانياً ،عز فراقه لكل من عرف درويش.
ولن يحتاج الفلسطينيون اليوم إلى ذاكرة تذكرهم بالفارس الذي ترجل وترك الحصان وحيدًا، لأنهم أوفوا حق من سبقوه كمعين بسيسو وفدوى طوقان ورفيقيه غسان كنفاني وناجي العلي الذين شكلوا مثلثاً أدبياً كاملاً للأدب الفلسطيني في الشعر والرواية ورسم الكاريكاتير، فلم تمحُ الأيام الحالكة ذكراهم وكأنهم يعيشوا بيننا ومعنا فوجه حنظلة ابن ناجي العلي " ابن القضية أيضا" لازال يرافقهم في شوارع المخيمات ويطل بوجه على بيروت وغزة كل صباح.وحكايات غسان كنفاني لازالت نبراسا له ترقي بها أوجاعهم.
لقد حلق محمود في فضائه من الحب والإبداع والقدرة الفريدة ..الشاعر الذي أحبه الكثير ليس في فلسطين فحسب بل في جميع الوطن العربي . لقد شكل درويش ظاهرة إنسانية مميزة أمتعت الجميع بالشعر والنثر . رحلت عنا لكنك حيٌ في ضميرنا ووجداننا كحلقة الوصل بيننا وبين فلسطين.كنت علامة بارزة في الشعر العربي والأدب الملحمي المصهور بالمعاناة ، ورمزاً لقضية وبلد وشعب ووطن - ولا أظن - أن النجوم تموت ولا تأفل ، أنها فقط تحتجب لفترة خلف الغيوم ،ومن ثم تعود مجددا ..حتى وإن كانت قد غادرت مكانها من ملايين السنين .
"على هذه الارض من يستحق الحياة".عبارة جسدها كلامك وشعرك الطاهر يا فارس الشعراء.
لم يكن غياب محمود درويش أمرًا سهلاً على الفلسطينيين الذين لا يسيطرون على الجغرافيا بقدر ما يقبضون على التاريخ، ويحرصون في رحلة دفاعهم المستميت عن قضيتهم على تسجيل نبضهم وألمهم ومعاناتهم وقهرهم وإبداعهم بالكلمات. كيف لا ودرويش كتب أسرارها ومجد زحفها المقاوم وسجل حنينها المؤبد لقراها ومدنها وخبز أمهاتها وقهوتهن... "أحن الى خبز أمي وقهوة أمي... وتكبر فيّا الطفولة يومًا على صدر أمي" من ديوان عاشق من فلسطين. لم يمر وفاة محمود درويش المبكرة والمفاجئة على الفلسطينيين مرور الكرام، فالشاعر غير العاديّ وابن الثورة الفلسطينيَّة والمخلص لها، وكاتب إعلان استقلال فلسطين في الجزائر في العام 1988، رحل باحتفال بكائي ممّن أحبوه وكذلك من اختلفوا معه. كيف لا وهم من يقدسون العظماء والشهداء والأطفال والحجارة، ويفرشون أهدابهم لاستقبال دموع رحيل أحبابهم بعز وكبرياء.
ابكي عليك وابكي ويبكي معي كل من يعيش في هذا الكون ويعرف درويش. بكيت عندما أيقنت أنك ذاهب للموت. بكيت عندما شاهدت على شاشة تلفزيون فلسطين في يوم دفنه في مدينة رام الله درويش وهو يعمل القهوةوحيداً ومن غيرميعاد وللصدفة أحضرت زوجتي فنجان القهوة ، فبكيت واستمررتُ بالبكاء لأنني كنت أكتب في الوقت نفسه بعض صفحات هذا الكتاب . بكيت قبل ذلك في اليوم نفسه عندما عدت من عملي وقد غادرت المدرسة مبكراً لأن الطلاب لم يبدأوا بالدراسة بعد،فشاهدت دمعة أمي وهي تبكي وتتابع مراسم تشييع دفن فقيد فلسطين وفقيد الثقافة العربية وفقيد فارس الشعر العربي الحديث... والذي ترك الحصان وحيداً .شعرت في هذا اليوم أن جسمي هو الذي يدمع وليست عيناي ... درويش أعذرني لن تكفيك الكلمات ؛لأني كغيري عندما نعد كتاباً نستحضر أولاً الكلمات ونبحث عنها ثم نوثق الكلام للآخرين. أما أنت أيها الشاعر الكبير يا شاعر المقاومة ويا شاعر الثورة ويا شاعر السلام الحقيقي عندما تكتب لا تبحث عن الكلمة أولاً بل إن سحرك في الكتابة كما قلت سابقا في إحدى المقابلات " المفتاح الأولي لي للكتابة هو عندما أعثر على الإيقاع أبدأ بالكتابة " ويرى درويش :
"أن الشاعر لا يعثر على هذا الإيقاع بدون صورة شعرية التي تبدأ بشعور ما أو بفكرة ما ‘ ثم تتحول الصورة الشعرية إلى إيقاع ..". ويقول عن نفسه:
" لا أضع خططاً أو أفكر بكتابة أي قصيدة..ولكن أبدأ بكتابة الشعر عندما أشعر بنداء داخلي كدبابيس تنتشر في دمي تحضني أن أكتب وأن أعثر على الإيقاع".
درويش كيف لا أبكيك؟ وثكالى الأرض تبكيك وتبكي معي آهات فلسطين تبكيك غزتي وضفتي وقدسي وقريتي التي فيها أباري في اللطرون.. حتى امتلأت بالدموع ..و امتلأت.. لتصب في شواطئي ونهري وبحري لكي يسقي كل أشجاري .. زيتوني وليموني وحتى رمالي وريحاني وورودي تبكيك.
أبكيك من عمان وقد أضاءت الشموع لرحيلك.. المدينة التي كنت ترتاح فيها... لأنك كما قلت : "اخترت عمان لأنها قريبة من فلسطين ثم لأنها مدينة هادئة وشعبها طيب. وفيها أستطيع أن أعيش حياتي. وعندما أريد أن أكتب أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمان".
وقد بكى عليك كل محبيك في القاهرة التي كانت بالنسبة لك المدينة الأكبر والأعظم لأنها كما قلت إنها عاصمة الثقافة العربية... والتي كنت تسبح فيها تجربتك ومغامرتك مع غيرك فزادت شهرتك..،فذهبت الى بيروت التي وصفتها بأنها أجمل مدينة في العالم ..وترى فيها ما ترى ..وترى فيها السجال الدائم للتعددية الفكرية .. وترى فيها الحرية الصحفية .. وترى فيها أجمل صناعة للكتاب العربي .. وترى فيها الحيوية الثقافية ..التي بدأت فيها الحداثة الشعرية..فكانت بيروت ساحة للحوار المفتوح في العالم العربي ؛ فكان مجمل أصدقائك في بيروت حتى أصر بعضهم وقد جاؤك من بيروت الى رام الله للمشاركة في مراسم تشييع دفنك لا لوداعك ..لأنك لن تغيب وتركت جرحاً في القلب لا في الجسد . فجرح المشاعر والإحساس الصادقة يبقى ولا يزول .. ويبقى الحزن ويستمر البكاء لكل من يعرف درويش من بيروت الى دمشق والذي وصف جمهورها عندما يستمعون له بإن له احساس مرهف وكأن لكل واحد معه مفتاح .فأصاب خبر وفاتك كغيرهم كالصاعقة... لم ينتظر الموت عشاقه من زوار معرض دمشق الدولي للكتاب ليحملوا دواوينه ويعودوا لمنازلهم حتى يقرؤوا كلماته النابضة بالحياة على مهل، بل فاجأهم خبر وفاتك عندما نعاك لهم وزير الثقافة وكان الوزير موجودا في ندوة ثقافية في مكتبة الأسد عندما أوقف الندوة لينعي رحيل الشاعر الفلسطيني.
ومن دمشق إلى باقي العواصم والمدن العربية من الخليج الى المغرب العربي التي زرتها كثيراً في أجمل الأمسيات الشعرية التي لا تنسى .. كغيرها من أمسيات شعرية دافئة من رحلات محمود درويش عبر العالم وخاصة باريس ومنها اصبحت شاعراً عالمياً بشهادة الجميع .
الى اللقاء يا شاعرنا الكبير في جنات عند مليك مقتدر ستبقى شامخا كما عرفناك بكلماتك ولن تنطفى ما زال بقلوبنا نبض
المؤلفmustafademes@ymail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق