الأحد، 26 أكتوبر 2008

أَفَلا يَتَدَبَّرُون


أَفَلا يَتَدَبَّرُون

عظمة الله من القرآن
والانسان و الكون


اعداد
مصطفى نمر مصطفى

التعريف بالقرآن الكريم
القـــرآن هـــادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها، ما من شيء يحتاجه البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً، عَلِمه مَنْ عَلِمه، وجهله من جهله.
جاء القرآن الكريم بلسانٍ عربيٍّ مبين، يخاطب هذه الأمة التي كانت تعيش حالة ضلال الذي كان يعيشه العرب يوم ذاك.
هذا القرآن الكريم أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم :1].
انه النبي الأمي الذي قاد عملية التحول الأولى، وانتهت بقيام دولة التوحيد الرائعة التي أقامها الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، هذه الدولة توحدت عقائديًّا، دولة التوحيد، دولة الشورى، دولة العدل، ودولة المسؤولية الشاملة، هذه القوى الأربعة التي قامت عليها هذه الدولة، باقتصاد -على بساطته- موحد، قيادة موحدة سياسيًّا، جيش موحد، أصبح مؤهل للانتقال إلى مرحلة أخرى لنقل الدعوة إلى العالم علميًّا ومعرفيًّا وبالأسلوب الأخلاقي الإسلامي المعروف، هذا النموذج أو هذه الممارسة ابتدأت تصنع أمة..
"القرآن الكريم كلام الله منه بدا، بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدَّقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله -تعالى- بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر…". (1)
وصفه منزله بقوله -سبحانه-: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41 - 42]. كما وصفه -جلت قدرته- بقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود :1].
حقا، إن آيات القرآن الكريم في غاية الدقة والإحكام، والوضوح والبيان، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير، وسيظل هذا الكتاب معجزًا من الناحية البلاغية والتشريعية والعلمية والتاريخية وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يتطرق إليه أدنى شيء من التحريف؛ تحقيقا لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر :9].
فسيدنا جبريل ¬عليه السلام¬ كان يؤدى القرآن على هيئته التى هو عليها، دون أن يتدخل بكثير أو بقليل، وأن القرآن ¬ الذى نزل به ¬ هو القرآن المعجز، بترتيبه الذى رتبه الله ¬عز وجل¬ عليه، وبألفاظه التى أظهره الله بها، وأن النبى ¬ عليه الصلاة والسلام ¬ قد تلقاه منه، وبلغه كما سمعه، دون أن يكون لجبريل ولا للنبى ¬ عليه الصلاة والسلام ¬ دخل فى إنشائه أو ترتيبه؛ وإنما ذلك لله عزوجل.
الحكمة فى نزول القرآن الكريم منجمًا:
ذهب العلماء إلى أن فى نزول القرآن الكريم منجمًا حكمًا عظيمة وأسرارًا كثيرة، نسوق منها ما يلى: (2)
أولاً: تثبيت قلب سيدنا محمد ¬عليه الصلاة والسلام¬ وإشعاره بأن الله معه ومؤيده وناصره؛ يقول الله عز وجل¬:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } [الفرقان: 32].
فمرةً يقص الله ¬عز وجل¬ عليه من أنباء الرسل ما يقوى به عزمه: { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ }[هود:120].
ومرةً يبشره بالنصر على الكفار: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]. ومرة يخبره بنهاية الكفار والمكذبين: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40].
إلى غير ذلك من الآيات التى تتابعت؛ لتثبيت قلب النبى ¬عليه الصلاة والسلام¬ وتقوية عزمه، ومضاعفة صبره.
ثانياً: التدرج فى تشريع الأحكام، بما يتلاءم مع التدرج فى انتزاع ما كان عليه العرب من العقائد، والعبادات الباطلة، والعادات المذمومة، فكانت حكمة الله ¬عز وجل¬ معالجة تلك الأوضاع بالتدرج شيئًا فشيئًا؛ إذ لو خوطبوا بأحكام الله جملة واحدة، لما استجابوا ولما استطاعوا، ويشهد لذلك:
ما أخرجه البخارى، بسنده عن أم المؤمنين عائشة ¬ رضى الله عنها ¬ قالت: ((إنما نزل أول ما نزل منه، سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شىء: لا تشربوا الخمر ، لقالوا : لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا. لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم, وإنى لجارية
ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [القمر : 46]، وما نزلت سورة ((البقرة)) و((النساء)) إلا وأنا عنده...)) الحديث(3).
وأخرج الإمام أحمد، بسنده عن عمر ¬ رضى الله عنه ¬ أنه قال: ((لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بين لنا فى الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت هذه الآية التى فى سورة البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] فدعـى عمر ¬ رضى الله عنه ¬ فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا فى الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التى فى سورة النساء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [النساء : 43] فكان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى ألا يقربن الصلاة سكران، فدعى عمر ¬ رضى الله عنه ¬ فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا فى الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التى فى ((المائدة)), فدعى عمر ¬ رضى الله عنه ¬ فقرئت عليه، فلما بلغ: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }[المائدة:91]، قال: قال عمر: انتهينا، انتهينا))(4).
وأخرج البخارى، ومسلم: عن أنس قال: ((كنت ساقى القوم يوم حرمت الخمر فى بيت أبى طلحة، وما شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر، فإذا مناد ينادى، فقال: اخرج فانظر، فخرجت فإذا مناد ينادى: ألا إن الخمر قد حرمت, قال: فجرت فى سكك المدينة، فقال لى أبو طلحة: اخرج فأهرقها(5) .
ثالثاً: متابعة ما كان يحدث للأمة من قضايا ومسائل، وبيان ما كانت تحتاج إليه من أمورها المختلفة.
ومن البدهِىِّ: أن تلك القضايا أو المسائل، لم تحدث للناس دفعة واحدة؛ لذا فقد اقتضت حكمة الله ¬عز وجل¬ أن يتنزل القرآن الكريم منجمًا؛ تبعًا لهذه القضايا والمسائل؛ ومن هذه الأمثلة:
ما أخرجه ابن أبى حاتم بسنده، عن سعيد بن جبير، عن عدى بن حاتم، وزيد بن المهلهل الطائيين، سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا:
يا رسول الله، قد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(6) [المائدة:4].
أخرج الواحدى بسنده، عن عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر، والتقوا، فهزم المشركون، وقتل منهم سبعون رجلا، وأسر سبعون رجلا استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليًا، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية؛ فيكون ما أخذنا منهم قوةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله؛ فيكونوا لنا عضدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يابن الخطاب؟ قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أن تمكننى من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حـمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه، حتى يعلم الله ¬ عز وجل ¬ أنه ليس فى قلوبنا مودة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر, ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: غدوت إلى النبى صلى الله عليه وسلم, فإذا هو قاعد وأبو بكر الصديق، وإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرنى ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ((أَبْكِى لِلَّذى عَرَضَ عَلَىَّ أَصْحَابُكَ مِنَ الِفَداءِ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَىَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ¬ لشَجَرةٍ قَرِيبَةٍ ¬ فأنزل الله ¬ عز وجل¬: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[الأنفال: 68] إلى قوله: { لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }))(7).
رابعًا: معرفة الناسخ من المنسوخ؛ حيث وردت آيات تحمل أحكامًا فى أمور تشريعية، مغايرة لآيات أخرى تحمل خلاف تلك الأحكام، ولو نزل القرآن جملة واحدة، لوقع الناس فى حيرة؛ حيث يقع الاضطراب: بأى الحكمين يأخذون, وأيهما يقدمون؟ أما بنزول القرآن الكريم منجمًا فإننا نستطيع أن نبين الناسخ من المنسوخ؛ حيث يكون الثانى ناسخًا للأول. ومن ذلك: ما جاء فى قوله تعالى من سورة ((البقرة))¬: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } [البقرة: 284].
وقوله تعالى فيها ¬ أيضًا¬: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. فعندما نزلت الآية الأولى، شق ذلك على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: إنه يجول الأمر فى نفوسنا، لو سقطنا من السماء إلى الأرض، لكان ذلك أهون علينا! واعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يطيقون، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا كما قالت اليهود: سمعنا وعصينا, ولكن قولوا: سمعنا وأطعنا)) فلما علم - جل شأنه - تسليمهم لأمره, ونزولهم على حكمه, أنزل آخر الآيتين ناسخة للأولى منهما.
خامسا: تجديد الدعوة للكفار؛ ليدخلوا فى دين الله - عز وجل - فى كل مرة من مرات نزول القرآن الكريم, وفى ذلك حرص على هدايتهم, ورغبة فى إسلامهم.
أما لو نزل القرآن دفعة واحدة, لظنوا تقادم العهد به, واختلقوا الأعذار للانصراف عنه.
سادسا: الرد على شبه الكفار ومفترياتهم التى كانت تتجدد بين الحين والآخر, ودفع ما كانوا يلقونه من أباطيل فى مسار الدعوة, كل هذه الأشياء تكفل القرآن بالرد عليها, وتتبعها بالتفنيد والإدحاض, ومن ذلك: ما جاء فى قوله تعالى: من سورة ((الأنعام)): {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِى الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ} [الأنعام: 8], وقوله فى سورة الفرقان: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:20], وقوله فى سورة ((الرعد)): {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38].
وقوله - حكاية عنهم-: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} [الزخرف: 31], ثم رده عليهم بقوله - جل شأنه-: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32].
وجماع هذه الحكمة يكمن فى قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33].
سابعا: تيسير حفظ القرآن الكريم وفهمه على أمته صلى الله عليه وسلم التى هى مخاطبة به, وهى أمة أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة, كانت أداة حفظهم هى الاعتماد على قوة الذاكرة، وصفاء الذهن؛ فناسب ذلك نزول القرآن منجمًا؛ يقول الله ¬ عز وجل ¬: { وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } [الإسراء:106]. ومن ناحية أخرى، فإن فى نزوله منجمًا تيسيرًا على الصحابة؛ لدراسته وتعلمه وفهمه؛ روى أبو عبد الرحمن السلمى، عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل.
ثامنا: فى نزول القرآن الكريم منجمًا ما يجعل سيدنا محمدًا ¬ عليه الصلاة والسلام ¬ راضى النفس، مسرور القلب، منشرح الصدر؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يحب لقاء جبريل ومدارسة القرآن معه، ومن كثرة حبه له أنه صلى الله عليه وسلم سأله أن ينزل عليه أكثر مما كان ينزل، فقدم سيدنا جبريل ¬عليه السلام¬ عذره بأنه لا يستطيع النزول إلا بأمر الله ¬ عز وجل¬: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64].
فقد روى البخارى، بسنده: عن ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: ((مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ ممَّا تَزَورُنَا؟))؛ فنزلت: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64].
وقوله عز وجل: فلا أُقْسِمُ بمواقع النُّجوم؛ (عنَى نُجومَ القرآن لأَن القرآن أُنْزِل إِلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم أُنزل على النبي، صلى الله عليه وسلم، آيةً آيةً، وكان بين أَول ما نزل منه وآخره عشرون سنةً.)(8)

القرآن هو المؤسس لدولة الإسلام
القرآن هو المؤسس للإسلام، القرآن هو بداية الإسلام، هو المصدر الرئيسي للإسلام، وكل المصادر الأخرى هي تبع له، بنيت عليه، حتى السنة النبوية في كثير منها هي تطبيقات لقضايا القرآن الكريم في إطار مرحلة البناء الأول للدولة، عدا ما يتعلق بالشريعة ويتعلق بمسائل العبادة التي هي توقيف للرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا أن هناك الكثير من المسائل التي فيما يتعلق بالاقتصاد، فيما يتعلق بالسياسة، فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية بشكل عام..

فالدنيا كلها لم تظفر بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد، الذي قال الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].

فتح الله به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وضمن للمسلمين الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا هم تَلَوْه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده وَأْتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه، وتخلقوا بما شرع، وطبقوا مبادئه ومُثُله وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم. قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة : 121]. قال ابن عباس: "يتَّبعونه حق اتباعه، يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه". وقال قتادة: "هؤلاء أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- آمنوا بكتاب الله فصدَّقوا به، أحلوا حلاله وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه.
لا شك في أن القرآن الكريم هو كتاب الله عَزَّ و جَلَّ الذي أنزله ليكون دستوراً لجميع أفراد البشر على مختلف لغاتهم و ثقافاتهم و ألوانهم من دون تمييز ، و هذا الأمر ليس إدعاءً ، بل هو حقيقة تؤكده الكثير من آيات القرآن الكريم .

القرآن الكريم كتاب هدى
وظائف القرآن الأساسية نأخذها من القرآن، ومن وظائفه أنه كتاب هدى، { ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " والهدى: ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة، أي : هو هدى ، أي : رشد وبيان لأهل التقوى ، وقيل : هو نصب على الحال ، أي : هاديًا ، تقديره ، لا ريب فيه في هدايته للمتقين ، والهدى ما يهتدي به الإنسان . للمتقين ، أي : للمؤمنين ، قال ابن عباس : المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش ، وهو مأخوذ من الاتقاء ، وأصله الحجز بين شيئين ، ومنه يقال : اتقى بترسه أي : جعله حاجزًا بين نفسه وبين ما يقصده . فكأن المتقي يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عما نهاه حاجزًا بينه وبين العذاب وتخصيص المتقين بالذكر تشريف لهم أو لأنهم هم المنتفعون بالهدى(1) . الهدى هنا هدى منهجيٌّ.. يجب أن يكون في الذهن، أو ينبغي أن يكون في ذهن الإنسان المسلم أن هذه الهداية هداية منهجية بالدرجة الرئيسيَّة، زائدًا الهدايات الأخرى. ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق. فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا، ولم يقبلوا هدى الله, فقامت عليهم به الحجة, ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر, لحصول الهداية, وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه, بامتثال أوامره, واجتناب النواهي, فاهتدوا به, وانتفعوا غاية الانتفاع. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية, والآيات الكونية.
قد وصف الله كتابه بأوصاف جليلة عظيمة تنطبق على جميعه ، وتدل أكبر دلالة على أنه الأصل والأساس لجميع العلوم النافعة ، والفنون المرشدة لخير الدنيا والآخرة :
وصفه بالهدى والرشد ، والفرقان ، وأنه مبين وتبيان لكل شيء ؛ فهو في نفسه هدى ، ويهدي الخلق لجميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم ، ويرشدهم إلى كل طريق نافع ، ويفرق لهم بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وبين أهل السعادة والشقاوة بذكر أوصاف الفريقين ، وفيه بيان الأصول والفروع بذكر أدلتها النقلية والعقلية ، فوصفه بهذه الأوصاف المطلقة العامة التي لا يشذ عنها شيء في آيات كثيرة .(2)
وقيد هدايته في بعض الآيات بعدة قيود : قيد هدايته بأنه هدى للمؤمنين المتقين ؛ لقوم يعقلون ، ويتفكرون ، ولمن قصده الحق ، وهذا بيان منه تعالى لشرط هدايته ؛ وهو أن المحل لا بد أن يكون قابلا وعاملا ، فلا بد لهدايته من عقل وتفكير وتدبر لآياته ؛ فالمعرض الذي لا يتفكر ولا يتدبر آياته لا ينتفع به ،
البعد المعرفي..والهداية المنهجية للقرآن تعني كيف تصل إلى الحقيقة؟ كيف تنجز المعرفة؟ كيف تنجز العمل بأدق وباقتصاد في الجهد وبثمرات كبيرة جدًّا؟ فهذا المنهج كيفية الوصول إلى الحقيقة.. {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا}
فمثلاً القرآن الكريم ليس كتابًا في العلوم ( الفيزياء والكيمياء والاحياء وعلوم الأرض والفلك)، ولكنه يهدي إلى هذه العلوم على أروع ما يمكن من خلال اشارات علمية
" هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ" الرعد:12
سوف نتحدث عنها بالتفصيل ، ليس في التاريخ ولكن يهدي إلى استيعاب رائع وعميق للتاريخ، ليس كتاب في الاقتصاد ولكنه يهديك إلى أروع ما في الاقتصاد، لماذا؟ لأنه يقدم لك المنهج الذي يعينك في بناء هذا العلم..

القرآن كتاب مُرسل إلى البشرية :
بالتدبر في كثير من آيات الذكر الحكيم نعرف أن كثيراً من الآيات القرآنية تدل صراحة على أن القرآن الكريم ليس ـ كما يتصور البعض ـ كتاباً خاصاً بالعرب ، بل هو كتاب عام خاطبَ به الله عَزَّ و جَلَّ جميع أفراد النوع الانساني ، و هو المنهج الإلهي الكفيل بإسعاد الإنسان أسوده و أبيضه ، عربيِّه و أعجميِّه ، شرقيِّه و غربيِّه ، حيث أننا نجد الخطاب الإلهي في كثير من الآيات خطاباً عاماً و شاملاً ، و غير محدود بحدود إقليمية أو لغوية أو قومية أو عرقية ، و لا محصور داخل أُطر ضيقة .
أن الصبغة العامة للخطابات القرآنية هي عمومية الخطاب و شموليته في الغالب ، فكثيراً ما نجد القرآن الكريم يخاطب العقلاء جميعاً من دون استثناء أو تمييز كما في توجيهه الخطاب لأولي الألباب من دون التعرض للغتهم ، و كذلك لدى توجيهه الخطاب للإنسان ، أو للناس ، أو للعالمين ، بل نجده يتخطى افراد النوع الانساني و يوجِّه خطابه الى الجن أيضاً في آيات عديدة سوف نشير إليها .
نماذج من الخطابات القرآنية العامة :
الخطابات القرآنية العامة كثيرة جداً نُشير إلى نماذج منها في ما يلي :
1. خطاب القرآن للعقلاء :
لقد وجَّه الله تعالى خطابه للعقلاء في كثير من آيات القرآن الكريم ، و لم يتعرض للغتهم أبداً ، و هذه الآيات كثيرة نُشير إلى بعضها :
قال الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ سورة ص ( 38 ) ، الآية : 29 .
و قال عَزَّ مِنْ قائل : ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ سورة النحل ( 16 ) ، الآية : 12.
2. خطاب القرآن للإنسان :
كما و أن الله عَزَّ و جَلَّ وجَّه خطابه للانسان في كثير من الآيات و لم يتعرض للغة هذا الإنسان ، و اليك بعض الامثلة على ذلك :
قال جَلَّ جَلالُه : ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ سورة الانشقاق ( 84 ) ، الآية : 6.
و قال عَزَّ مِنْ قائل : ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴾ سورة القيامة ( 75 ) ، الآيات : 3 - 6.
و قال سبحانه و تعالى : ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ سورة القيامة ( 75 ) ، الآيات : 36 - 40 .
3. خطاب القرآن للناس :
كما و وجَّه خطابه إلى الناس في عدد من الآيات القرآنية الكريمة ، و لم يخص فئة دون أخرى ، و هذه بعض الأمثلة :
قال عَزَّ مِنْ قائل : ﴿ الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ سورة إبراهيم ( 14 ) ، الآية : 1 ، و ليس في هذه الآية ذكرٌ للغةٍ خاصة أو قوم خاص ، بل الآية تصرح بأن القرآن منزل ليكون وسيلة لإخراج الناس جميعاً من دون تمييز من الظلمات إلى النور .
و كذلك قوله جَلَّ جَلالُه : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 41 .
و لو تأملنا الخطاب القرآني خاصة في المسائل العامة كالدعوة إلى عبادة الله و التوحيد و غيرهما لوجدناه خطاباً عاماً ، حيث يكون الخطاب فيها بـ " يا أيها الناس " ، و مثال ذلك هو سورة الحج ، فإن فيها خطابات متعددة للناس جميعاً ، كما في قول الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 1 و 2 .
و كما في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 5.
و كما في قوله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 49 .
هذا مضافاً إلى الخطابات الكثيرة الأخرى الموجودة في غير سورة الحج ، أمثال قوله تعالى : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 158.
و قوله جَلَّ جَلالُه : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ سورة يونس ( 10 ) ، الآية : 57 .
و قوله سبحانه : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴾ سورة يونس ( 10 ) ، الآية : 108.
4. خطاب القرآن للعالَمين :
هذا و من يتدبر القرآن الكريم يجد التأكيد القرآني على عالمية القرآن و الرسالة المحمدية قوياً جداً ، إلى جانب ما تؤكده الأحاديث الشريفة من أن الله عَزَّ و جَلَّ قد أرسل رسوله النبي محمد صلى الله عليه و سلم للناس عامة و ليس للعرب خاصة ـ كما قد يُتَصوَّر ـ ، و هنا نريد التأكيد على أن القرآن الكريم ليس للناس جميعاً فحسب ، بل هو كتابٌ مرسل إلى العالمين الذي هو أعم من الناس ، و يشهد على ذلك عدد غير قليل من الآيات التي تصرح بهذا الأمر ، و من تلك الآيات :
قال الله جَلَّ جَلالُه : ﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ سورة القلم ( 68 ) ، الآية : 51 و 52 .
و قال تعالى : ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ سورة التكوير ( 81 ) ، الآية : 27.
قال ابن منظور : العالَمُ : الخَلْق كلُّه‏ ، و قال الزجاج : معنى العالمِينَ‏ كل ما خَلق الله ، كما قال : و هو ربُّ كل شي‏ء ، و هو جمع عالَم(3).
{ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }أي ما هذا القرآن إِلا موعظة وتذكرة للخلق أجمعين(4)
ونتيجة هذا البيان أن القرآن كتاب هدى يهتدي به من أراد الاستقامة على الحق وهو قوله: { إن هو إلا ذكر للعالمين }(5)
إلى غيرها من الآيات الدالة على عمومية القرآن الكريم و الرسالة الإسلامية و أنها غير مختصة بمكان أو زمان معين أو فئة و جماعة خاصة .
5. خطاب القرآن للجن :
قال جَلَّ جَلالُه : ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ سورة الاحقاف ( 46 ) ، الآيات : 29 - 32.
ومن نعم الله عز وجل ورحمته بهذه الأمة أنه تفضل عليها بالقرآن ومثله معه ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه  ( ) ليكون بياناً ساطعاً، ونوراً مشرقاً، يسد الباب أمام عشاق الأوهام، وخفافيش الظلام، الذين ينشطون لأشكلة الواضحات وتعويص الهينات . فجاءت بحمد الله عز وجل :
- رسالة كاملة شاملة  الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا  [ سورة المائدة آية 3 ] .
غطت كل جوانب الحياة العقدية والتشريعية والأخلاقية، وقام جهابذة العلم فيها بما يشبه المعجزة في التعليم والبيان ، والتأليف والإبداع في الأصول والفقه والحديث والتفسير والكلام ، وكل ذلك ظل دائماً مشدوداً إلى الأصلين العظيمين الكتاب والسنة.
- هادية منيرة مصحّحة مسدّدة  يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا  [ سورة النساء آية 174 ] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة المائدة آية 15 – 16 ] تخرج الناس من الظلمات إلى النور : من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، ومن ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ، ومن ظلمة الشك إلى نور اليقين، ومن ظلمة الخوف إلى نور الرجاء والأمان، ومن ظلمة الجور إلى نور العدل والقسط ، ومن ظلمة العصبية والجاهلية إلى نور الأخوة الإنسانية .
- واضحة بينة: " بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك " ( ) لا لبس فيها ولا غموض، ولا رموز ولا كتمان ، إنها أجلى من الشمس في رابعة النهار غير أن الأعشى لا يراها والأعمى لا يستفيد من نورها .
- ليس فيها حرج : وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ  [ سورة الحج آية 78 ]
- سهلة يسيرة : لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا [ سورة البقرة آية 286 ] "" إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه .. " ( ) . "" يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا "" ( ) .
- فيها تنوع وثراء في تشريعاتها وتوجيهاتها، تمد الوجود الواقعي والحياتي دائماً بمعطياتها ونصائحها دون عسف أو غمط للواقع، ودون إهمال أو تفريط به .
- وفيها تنوع في خطابها بحسب أصناف الناس وقدراتهم وطاقاتهم من تقاعس أو نشاط، وقوة أو ضعف ، فتشجع القوي والنشيط وتحثه على المزيد "" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"" ( ) ولكنها لا تقنط الضعيف والفقير "" ففي كل خير "" - وتراعي حال المريض والمحرج والمضطر لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  [سورة التوبة آية : 91 ]لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ[ سورة النور آية : 61 ]  فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ سورة البقرة آية 173 ]
- ولا تؤيس العاصي والمخطئ بل تدعوه إلى التوبة وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ  [سورة النور آية 31 ]  إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ  [ سورة البقرة آية : 160].
- ولا تقطع أمل المنحرف والمسرف على نفسه بل تفتح له نافذة من الرجاء والأمل  قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ  [ سورة الزمر آية 53 ] لاحظ كيف يصف المسرفين بأنهم عباده ويضيفهم إلى نفسه سبحانه وتعالى ، ثم ينهاهم عن القنوط واليأس من رحمة الله ، ثم يعدهم بمغفرة الذنوب جميعاً دون استثناء ، ثم يعقب ذلك بوصف نفسه جل وعلا بالمغفرة والرحمة . ثم تأمل في هذه الآية كم فيها من معاني الرجاء للعصاة والمذنبين  وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ  [ سورة آل عمران آية 135 ]
- كما أنها بعدلها وإنصافها لا تسوّي بين الكسول المتقاعس والنشيط الجاد، ولا بين المهمل المقصر وصاحب الهمة والعزيمة ، بل تفتح الباب لكل واحد منهما للرقي والسمو ، وذلك عبر المراتب الثلاث : الإسلام والإيمان والإحسان .
فمن أراد أن يرقى فدونه الجبل لا أحد يمنعه، ودونه القمة فليتسلق إليها لا أحد يدفعه . وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [ سورة الإسراء آية 19 ] فمن يعمل ويسعى ويجاهد ليس كمن ينام ويتقاعس  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ  [سورة العنكبوت آية 6 وليس الناس على درجة واحدة من الهمة والعزيمة والقصد  ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ  [ سورة فاطر آية 32 ]
- والإسلام طَموح ويعلم أبناءه الطموح والهمة العالية "" يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ..." ( ) ويربط الرقيّ بالعمل ،بل وبإتقان العمل أيضاً، ويدعو أبناءه إلى طلب القمة والسعي إليها "" إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى "" ( )
هذه رسالة محمد  ، رسالة الإنسان ، رسالة السعادة ، رسالة الحضارة رسالة العدالة ، رسالة الرحمة . لا تنظر إليها من زاوية من الزوايا إلا وتجد فيها التشوّف إلى سعادة الإنسان وراحته ، ومنفعته وقد يدرك الإنسان أبعاد هذه المنفعة والسعادة وقد تخفى عنه فلا يلاحظها إلا بعد حين .
فكانت تشريعاً معجزاً بديعاً، تستطيع أن تقول وأنت واثق من نفسك : إن نظام الرسالة المحمدية الكوني ينسجم تماماً مع الكون، وتتطابق بشكلٍ رائع آيات القرآن مع آيات الكون، كذلك إن نظام الرسالة التشريعي يتطابق بشكلٍ عجيب مع نظام الكينونة الإنسانية فرداً ومجتمعاً  أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ سورة الملك آية 14 ] .
هذه رسالة الإسلام ، رسالة الإنسان ، رسالة الرحمة الإلهية ، وفي كثير من الأحيان يجهل الإنسان بدوافع من رغباته وأهوائه كم هو محظوظ، لأنه يتقلب في ربيع النعمة الإلهية ، والبركة المحمدية فيعرض الإنسان فرداً أو جماعة عن الاحتماء بمظلة الإسلام ، ويهيم ملاحقاً شهواته في فيافي الأوهام، ومفاوز الآثام ولا يكتشف ضلاله وضياعه إلا بعد فوات الأوان ، وكان يكفي الإنسان لكي يقي نفسه هذا الضلال والتيه أن يثق بربه عز وجل، ويقبل رسالته الهادية، ويقبل رسوله المبلّغ المبشّر، ويعتصم بحبله المتين ،ونوره المبين، فيوفر على نفسه ألواناً من الضنك وأشكالاً من الخيبة في مسيرة الحياة .
- كما انها رسالة إلى العالمين أيضاً ، و ليس للبشر خاصة ،و إليك نماذج من هذه النصوص :
قال الله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ سورة الأنبياء ( 21 ) ، الآية : 107.
و قال عَزَّ مِنْ قائل : ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ سورة الفرقان ( 25 ) ، الآية : 1 .
و قال جلَّ جلاله مخاطباً الرسول ( صلى الله عليه و آله ) : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ سورة سبأ ( 34 ) ، الآية : 28 .
و قال جلَّ و علا مخاطباً رسوله الكريم أيضاً : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 158.
- ومنها: أن الله جعل أسلوبه معجزا، وإن كان الإعجاز في سائر كتب الله -تعالى- من حيث الإخبار عن المغيبات، والإعلام بالأحكام، ولكن ليس فيها الأسلوب الخارج عن المعهود، فكان القرآن أعلى منها بهذه المعاني وأمثالها وإلى هذا الإشارةُ بقوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف :4].
ومما يدل على هذا أيضا قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص 102، 103: "وإنما فازوا بهذا ببركة الكتاب العظيم -القرآن- الذي شرفه الله -تعالى- على كل كتاب أنزله، وجعله مهيمنا عليه، وناسخا له وخاتما له؛ لأن كل الكتب المتقدمة نزلت إلى الأرض جملة واحدة، وهذا القرآن نزل منجما بحسب الوقائع لشدة الاعتناء به، وبمن أنزل عليه، فكل مرة كنزول كتاب من الكتب المتقدمة" انتهى.
وهذا الكتاب المبارك قرر كثيرا من الحقائق العلمية الكونية في معرض الاستدلال على وجود الله وقدرته ووحدانيته، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ وحث على الانتفاع بكل ما يقع تحت أبصارنا في الحياة مما خلقه الله قال -سبحانه-: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وقال -جلت قدرته-: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
فعلى المسلمين أن يُعملِوا أفكارهم في علوم الكون، ولا يحرموا أنفسهم فوائد التمتع بثمرات هذه القوى العظيمة التي أودعها الله لخلقه في خزائن سماواته وأرضه.
نعم إن الحديث عن القرآن الكريم لا يَنْضَب معينه، فهو الذي حَبَّب إلى المسلمين العدل والشورى، وكره إليهم الظلم والاستبداد، شعار متبعيه: قوة الإيمان، وإنكار الذات، والإيثار، والرحمة فيما بينهم.
ولذا اعتنى بــــه صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعوهم تلاوة وحفظاً وفهماً وتدبراً وعملاً. وعلى ذلك سار سائر السلف وهذه بعض الإشــارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح.

معنى التدبر
لقد أنزل الله الـقــرآن وأمــرنــا بـتـدبــــره، وتكفل لنا بحفظه، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره (1).
التدبر:
لغة التفكر ومادته تدور حول أواخر الأمور وعواقبها " فالتدبر هو النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه ومن هنا نستطيع أن نفهم التدبر هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر الدلالات الكلم ومراميه البعيدة "(2)
فاعتمادا على هذا التعريف يكون التدبر هو " التفكر باستخدام وسائل التفكير والتساؤل المنطقي للوصول إلى معان جديدة يحتملها النص القرآني وفق قواعد اللغة العربية , وربط الجمل القرآنية ببعضها وربط السور القرآنية ببعضها وإضفاء تساؤلات مختلفة حول هذا الربط أو ذاك . " (3)
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم: "تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله"(4).
وقـيـل في معناه: "هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة"(5).
أولاً: منزلة التدبر في القرآن الكريم:
1) قال الله {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب})) ص: 29] في هذه الآيـة بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها.
قال الحسن البصري: "والله! ما تـدبُّـره بحفـــظ حـروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل"(6) .
2) قال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن} ((النساء: 82)).
قال ابن كثير: " يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: أفــلا يتدبرون القرآن"(7)، فهذا أمر ريح بالتدبر والأمر للوجوب.
3) قال تعالى {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}((البقرة: 121)).
روى ابن كـثـيـر عـن ابن مسعود قال: "والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله"(8).
وقال الشوكاني: "يتلونه: يعملون بما فيه"(9) ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر.
4) قــال تعالى {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يـظـنــــون} ((لبقرة: 78)).
قال الـشـوكـانـي: "وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر"(10)، وقـال ابـن القـيـم: "ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني"(11).
5) قال الله تعالى {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهـجـــورا} (الفرقان: 30) .
قال ابن كثير: "وترك تدبره وتفهمه من هجرانه"(12).
وقال ابن القيم: "هجر القرآن أنواع... الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه"(13).
ثانياً: ما ورد في السنة في مسألة التدبر:
1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رســـــول الله صلى الله عـلـيـه وسلم قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلـت عـلـيـهــم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"(14).
فالسكينة والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر.
أمــا واقـعـنـا فهو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي - في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها.
2) روى حذيفة - رضي الله عنه -: "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مـتـرســـلاً إذا مـر بـآيـة فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ"(15).
فهذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
3) عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها{ إن تعذبهم فـإنـهـم عـبـادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} ((المائدة: 118))(16).
فهـذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية واحدة فقط في ليلة كاملة.
4) عـــن ابن مسعود قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"(17).
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم الصحابة القرآن: تلازم العلم والمعنى والعمل؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق والعمل به.
5) لما راجـــع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث"(18).
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود بتلاوته لا مجرد التلاوة.
6) وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال: يا فلان! هل أسقطت في هذه السورة من شيء؟ قال: لا أدري. ثم سأل آخر واثنين وثلاثة كلهم يقول: لا أدري، حتى قال: ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما يدرون ما تلي منه مما ترك؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه".
ثالثاً: ما ورد عن السلف في مسألة التدبر:
1) روى مالك عــــن نافع عن ابن عمر قال: "تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً"(19).
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن؛ فما بقي إلا أنه التدبر.
2) عن ابن عباس قـال: "قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل عن الناس فقال: يا أمير المؤمنين! قد قرأ الـقــرآن منهم كذا وكذا، فقلت: والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة. قـــــال: فزبرني عمر، ثم قال: مه! فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفاً؟ قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا: كلٌ يقول الـحــــق عندي - ومتى يحتقوا يختصموا، ومتى اختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، فـقــال عـمــــر: لله أبوك! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها(20)"، وقد وقـع ما خشي منه عـمــــر وابن عـبــــاس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن؛ لكنه لا يجاوز تراقيهم.
3) عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخـــر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به. وفي هذا المعنى قال ابن مسعود: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به"(21).
4) قال الحـسـن البصري: "إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، وما تدبُّر آياته إلا باتـبـاعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسـقـطـت منه حرفاً وقد - والله! - أسقطه كله ما يُرى القرآن له في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهـــم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَسٍ! والله! ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعــة مـتى كـانـت الـقــراء مـثـل هــذا؟ لا كـثَّــر الله في الناس أمثالهم"(22).
5) وقال الحسن أيضاً: "نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملاً.(23)
أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به".
6) كان شعبة بن الحجاج بن الورد يقول لأصحاب الحديث: "يا قوم! إنكم كلما تقدمتم فـي الـحـديـث تـأخـرتـم في القرآن"(24). وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه.
7) عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثراً"(25).

8) قال ابن القيم: "ليس شــيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع الـعـبـد عـلـى معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل فـي يـده مـفـاتـيـح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتـشـهــده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصـــل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فـيـهــا، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بـيـن الـهــــدى والـضـــلال، وتـعـطـيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فــلا تـزال مـعـانـيـه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديــه فـي ظـلـم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عــزمــاتــه: تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ.
فاعتصم بالله واستعن به وقل: "حسبي الله ونعم الوكيل"(26).
وحتى نتدبر القرآن فعلينا:
1) مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة وإخلاص واستعاذة وبسـمـلـة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه.
2) التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة.
3) الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة.
4) النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها - معناها - نزولها - غريبها – دلالاتها.
5) مـلاحـظـــة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته وواقعه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
6) العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها.
7) الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية.
8) النظرة الكلية الشاملة للقرآن.
9) الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن.
10) الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له.
11) معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه.
12) الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة.
13) العودة المتجددة للآيات، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة؛ فالمعاني تتجدد.
14) ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة.
15) التمكن من أساسيات علوم التفسير.
16) الـقـراءة فـي الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب: (القواعد الحسان لتفسير القرآن) للسعدي، وكـتـاب (مـفـاتـيح للتعامل مع القرآن) للخالدي، وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لـعـبـد الرحمن حبنكة الميداني، وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب(27).

حقا، إن القرآن الكريم بألفاظه ومعانيه كلام الله، وهو المنهج السماوي للبشر كافة، وللخلق عامة، وهو المرجع الأول في أمور دِين المسلمين، وهو الحكم الذي إليه يحتكمون، وفصل قضائه الذي إليه ينتهون، والأحكام التي وردت في القرآن الكريم لم تصدر دفعة واحدة، بل نزلت تدريجيا طوال مدة الرسالة، فبعضها لتثبيت فؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقوية قلبه، وبعضها لتربية هذه الأمة الناشئة، علما وعملا، والبعض الآخر نزل بمناسبة حالات وقعت فعلا للمسلمين في حياتهم اليومية، في أوقات مختلفة، وأزمنة متفرقة، فكلما وقع منها حادث نزل من القرآن الكريم ما يناسبه ويوضح حكم الله فيه، من ذلك الأقضية والوقائع التي كانت تحدث في المجتمع الإسلامي في عهد التشريع، فيحتاج المسلمون إلى معرفة حكمها، فتنزل الآيات مبينة حكم الله فيها، كتحريم الخمر.
وهكذا كان التدرج في التشريع؛ ليطهر الله -سبحانه وتعالى- الأمة الإسلامية من العادات المخالفة لمنهج الله، ويكملهم بالفضائل من الصفح والحلم، والإيثار والمحبة والأمانة، ورعاية الجوار والعدل، وغير ذلك من كريم الخصال.
فالله -تعالى- وحده هو المشرع لعباده، قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]. ولا يشرع للناس إلا ما فيه خيرهم وسعادتهم، سواء أظهرت الحكمة من ذلك أم لم تظهر.
والقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع.
وأما السنة النبوية فهي المصدر الثاني للتشريع، ولا خلاف بين الفقهاء على أنها حجة في التشريع بجانب القرآن الكريم، قال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]. وقال -سبحانه-: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]. وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7].

وبعد: فما درجة أهمية تدبر القرآن في عقولنا؟
وما نسبة التدبر في واقعنا العملي فيما نقرأه في المسجد قبل الصلوات؟
وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على التدبر في المسجد ؟
وهل مناهجنا التربوية تربط آيات القرآن بالمواد الأخرى ؟
وهل المعلم يعمق مادته كمواد العلوم المختلفة ( الأحياء والفيزياء وعلوم الأرض ...) في قدرة الخالق عز وجل ؟

أم أن الأهم الحفظ وكفى بلا تدبر ولا فهم؛ لأن التدبر يؤخر الحفظ؟.
مـا مـقـدار التدبر في دروس العلوم الشرعية في المدارس، خاصة دروس التفسير؟ وهل يربي المعلم طلابه على التدبر، أم على حفظ معاني الكلمات فقط؟
تُرى: ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ؟
لماذا يكون همُّ أحدنا آخر السورة، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟.
في الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلا قال: (إني لأقرأ المفصل في ركعة واحدة، فقال هذا كهذي الشعر، إن قوما يقرؤون القرآن لايجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع).
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: (لاتنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذي الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولايكون هم أحدكم آخر السورة). وفي الحديث الصحيح عن ابن عمرو بن العاص: ( يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).
ومتى نقتنع أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة ؟ وان العمل والتقيد بما جاء به سبحانه في صفحة واحدة من كتابه أفضل من قرائته كاملاً دون تمعن وتدبر؟
لم يكن القرآن كتاب الله الخالد قد نزل ليقرأ على سبيل التسلية وقضاء الوقت، أو معرفة ما كانت عليه الأمم السابقة دون أن يكون لذلك أي أثر في النفس الإنسانية، وفي المجتمع والأمة على حد سواء، لذا جاء الأمر بالتدبر صريحا في القرآن، وقد نعى المولى سبحانه وتعالى على الذين لا يتدبرون القرآن، ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)).
والتدبر هو النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه ومن هنا نستطيع أن نفهم التدبر هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة.
فاعتمادا على هذا التعريف يكون التدبر هو التفكر باستخدام وسائل التفكير والتساؤل المنطقي للوصول إلى معان جديدة يحتملها النص القرآني وفق قواعد اللغة العربية , وربط الجمل القرآنية ببعضها وربط السور القرآنية ببعضها وإضفاء تساؤلات مختلفة حول هذا الربط أو ذاك.
أهمية التدبر:
لماذا التدبر؟
سؤال مطروح ومهم وملح ولعل الأهمية في التدبر تكمن(28):
1- الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى فلقد أمرنا بذلك فقال:(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً)، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، وإن الله علم أن هذا التدبر فيه خير عظيم وإن كنا نحن المسلمين لا ندركه إدراكا صحيحا.
2- القرآن الكريم بحر فائض من خيرات الرحمن للعالمين قال الرافعي :القرآن الكريم يعطيك معاني غير محدودة في كلمات محدودة.
وهذا البحر الفائض من الخيرات لا بد لاستخراج الدرر المكنونة فيه من غوص وتدبر لاستخراجها واستخراج الحلول للمشاكل المستجدة في عصرنا وفي كل العصور وهو ما يسمى بصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً).
3- سبب لشحن النفس نحو الخير وضد الشر فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يكرر الآية الواحدة عشرات المرات وورد أنه قام الليل وهو يكرر قوله تعالى (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وما معنى أن يكرر الإنسان آية عشرات المرات إذا لم يكن فيها تقليب الآية والتفكر فيها وكثير من الصحابة والصالحين كانوا يكررون كثيرا الآيات يتفكرون وينظرون ويعتبرون.
4- التدبر يعني الاهتمام وبالتالي التطبيق والممارسة وهي النقطة الأهم في حياة الأمة فإذا تدبرنا القرآن نقلناه إلى حقول الممارسة على الأقل أو إلى ميادين السلوك.
5- التدبر في القرآن كان سببا في تغيير حياة كثير من الناس وأولهم الصحابة الذين كانوا يسمعون القرآن فيقولون والله إنه ليس بقول البشر وما هي إلا لحظات تفكر وتدبر قليلة حتى يدخل ذلك الرجل في الإسلام ويصبح من الصحابة الكرام. كيف نتدبر القرآن العظيم؟
(إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)
ولا يتنازع اثنان أن رفعة السلف الصالح كانت مصداقا للشق الأول من هذا الحديث وبسب التصاقهم بالقرآن الكريم فهما وتطبيقا وحسن تدبر رفعهم الله سبحانه ولا يشك شاك ولا يتنازع اثنان أن سبب الذلة التي نعانيها اليوم هو مصداق للشق الثاني للحديث حيث ابتعدنا عن القرآن الكريم فهما وتطبيقا وتدبرا فأذلنا الله سبحانه لذلك كان لزاما علينا إن كنا نريد لأمتنا أن تستعيد مجدها وشهودها الحضاري أن نعيد تنظيم علاقتنا مع القرآن الكريم وفق المنهج الذي ارتضاه الله لنا وهذا المنهج يكمن في قوله تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) ويكمن أيضا في علاقة الرسول الكريم مع القرآن فقد كان عليه الصلاة والسلام قرآنا يمشي على الأرض.
والصحابة رضوان الله عليهم كانوا لا يتعلمون الآية حتى ينتهوا من الآية التي سبقتها فهما وتدبرا فانعكس ذلك على سلوكهم وحياتهم فلذلك رفعهم الله وسار التابعون على ذلك فارتقوا وارتفعوا وجعلهم الله سادة للأمم بعد أن كانوا رعاة للغنم وحتى نعيد علاقتنا مع القرآن الكريم فلا بد من التدبر والتدبر هو المفتاح لأنه يعني الاهتمام والمسلم اليوم لا ينقصه شيء مثل ما ينقصه الاهتمام بدينه و قرآنه.
فكيف نتدبر القرآن لا بد أن تكون هناك خطوات عملية من أجل أن نصل إلى العتبة الدنيا التي نفهم بها عن رب العالمين سبحانه وهذه بعون الله بعض النقاط:
1- الاهتمام باللغة العربية: فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية بل يمكن أن نقول إن اللغة العربية هي الوعاء الذي اختاره الله لتستوعب القرآن الكريم (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً)، (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً)، فلذلك أول خطوة في طريق تصحيح علاقتنا مع القرآن الكريم هو بعض الاهتمام بهذه اللغة فمن يريد أن يتعامل مع القرآن الكريم فلا بد أن يتجاوب مع لغته.
2- كثرة التساؤلات في القرآن: قالوا قديما العلم خزائن ومفتاحه السؤال وأي علم أوسع وأغزر من القرآن الكريم فإضفاء التساؤلات المختلفة على القرآن الكريم يعطينا فهما أوسع للقرآن وامتدادا زمانيا ومكانيا له فمثلا لماذا جاءت هذه السورة قبل تلك ولماذا قدم الجملة هذه على تلك إن هذه التساؤلات وغيرها تجعل القرآن الكريم يفتح لنا أسراره الكامنة وتجعلنا نستنطق كثيرا من الآيات لم تستنطق بعد.
3- العمل تحت قول المفسرين (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ): وهي قاعدة مهمة حيث إن ما كان سببا في نزول بعض آيات القرآن الكريم لا يقتصر على الحادثة فقط إنما تقاس عليها كل الحوادث المشابهة فأسباب النزول هي وسائل ايضاحية وليست وعاء حصريا فما نزل في الوليد بن المغيرة يقاس عليه كل من يتصف بصفاته وما نزل بأبي لهب يقاس عليه كل من يتصف بالصفات ذاتها.
4- الاهتمام بالصحيح من تفسير القرآن الكريم: ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الناقل عن الله وهو المبين للقرآن الكريم.
5- عدم أسر أنفسنا بالاسرائيليات التي وردت في التفاسير السابقة لأنها تشكل عقبة في فهم القرآن وتخرجنا عن مقاصده العامة بالاضافة إلى المخالفات الشرعية الموجودة فيها.

ليست هناك تعليقات: